كلمات

التكافل العالمي حقيقة أم أسطورة؟

اعلنت جمعية الصحة العالمية الثالثة والثلاثون سنة 1980، وبعد ما يقارب قرنين من تطوير تمنيع لمرض الجدري، أن العالم خالٍ من هذا المرض. يعتبر الكثيرون أن القضاء على هذا المرض، الذي يحصد 3 من كل 10 مصابين، أكبر إنجاز في مجال الصحة العامة الدولية.
اليوم، يواجه العالم تحدي فيروس جديد ذي خصائص مختلفة عن الجدري، وذلك بظهور «سارس – كوف – 2»، الفيروس المسبب لجائحة «كوفيد – 19»، والذي ظهر في نهاية 2019. أول بادرة تفاؤل لإنهاء هذه الجائحة ظهرت جلياً حين أدى التعاون الدولي إلى تطوير لقاح ذي تقنية جديدة في فترة وجيزة وذي فاعلية عالية. ولكن ما تبع هذا الاكتشاف العلمي الكبير بيَّن أن ما سيُنهي الجائحة ليس فقط تطوير لقاح فعّال وإنما هو إيصال هذا اللقاح إلى من يحتاج إليه في جميع أنحاء العالم وبالسرعة نفسها. ولكن ليس هذا ما حدث، فقد كان هناك تفاوت واضح في نسبة التمنيع لدى سكان الدول الغنية والتي فاقت 70 في المائة، وتمنيع سكان الدول الفقيرة والتي لم تتعد العشرة في المائة، إضافة إلى افتقاد المساواة في تقديم الرعاية الصحية لمن يصاب بالمرض وفي نسب التمنيع للسكان غير الشرعيين، المهاجرين، النازحين، ومن ليس لهم مأوى في كثير من الدول، حيث فاقت نسبة الوفيات من هذه المجموعات المذكورة عن سواهم من السكان.
ناشدت منظمة الصحة العالمية بثلاث مبادرات مهمة للغاية فيما يخص التمنيع، ترتكز على العدالة والإنصاف. المبادرة الأولى كانت مع أول بادرة لاعتماد لقاح ضد «سارس – كوف – 2»، وهو دعوة الدول للتكافل بإيصال وتمنيع أكثر المعرّضين للإصابة بالمرض والأكثر عرضة للوفاة من العدوى بالتساوي في جميع دول العالم، وإعطاء الأولوية لمقدمي الرعاية الصحية. وأن يكون هناك مؤشر عالمي لتمنيع 10 في المائة من هاتين الفئتين بنهاية شهر سبتمبر (أيلول) 2021. ولكن ما يزيد على خمسين دولة أخفقت في تحقيق هذا الهدف. واستمرت المنظمة بالمطالبة بالتكافل الدولي ووضعت مؤشرين آخرَين، وهما الوصول إلى تمنيع ما لا يقل عن 40 في المائة من سكان الدول بنهاية شهر يوليو (تموز) 2022، وما لا يقل عن 70 في المائة بنهاية 2022. اليوم، هناك ما لا يقل عن 35 دولة لم تصل إلى تمنيع 10 في المائة من مواطنيها؛ ما يترك أرضاً خصبة لانتشار الفيروس واستمرارية التحور، وأيضاً بقاء عدد كبير من مقدمي الرعاية الصحية عرضة للإصابة بالمرض.
المبادرة الثانية هي مساهمة منظمة الصحة العالمية مع ثلاثة شركاء آخرين بإيجاد منظومة «كوفاكس»؛ كي يتم التبرع بجرعات أو أموال توفر شراء الجرعات اللازمة لتحقيق المؤشرات المقترحة وإيصال الأمصال للدول الفقيرة. أما المبادرة الثالثة، وهي الأهم على المدى الطويل، فهي الدعوة بقبول وتطبيق فكرة التنازل عن الملكية الفكرية للأمصال، وضمان نقل تقنية إنتاج اللقاحات إلى مراكز حول العالم تضمن الإنتاج وتوفر التمنيع لجميع الدول في الوقت نفسه وبوتيرة سريعة.
فرصة التحكم في الجائحة كان يمكن أن تكون أعلى بتطبيق هذه المقترحات. ولكن بسبب الضغوط الاقتصادية والمجتمعية، آثرت كثير من الدول الغنية توفير جرعات أولية وتنشيطية لجميع شرائح مجتمعاتها، وإعطاء الأولوية لاستعادة الحياة الطبيعية وعودة الاقتصاد والرفاهية محلياً. أدى ذلك إلى زيادة الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في نسب التمنيع. وبسبب فقدان كثير من الدول الفقيرة البنية التحتية للقيام بعمليات التمنيع، إضافة إلى شُح الإنتاج العالمي للأمصال وعدم وجود جرعات كافية لدعم منظومة «كوفاكس»، وقعت الدول الفقيرة فريسة لهذا القصور المحلي لتبني برامج التمنيع، وكذلك فريسة للخلل في التكافل العالمي لإيصال الجرعات اللازمة عبر منصة «كوفاكس». أما عن مبادرة التنازل عن الملكية الفكرية للأمصال ومبادرة نقل المعرفة التقنية إلى دول أخرى فقد تطور بشكل بطيء مع بصيص من الأمل بأن تكون دولة جنوب أفريقيا أول من تتبنى هذه المبادرة.
فإذا هناك دروس أساسية مستقاة من هذه الجائحة. من أهمها الاستقلال في تطوير وإنتاج اللقاحات، ودعم البحث والابتكار، وتعليم وتدريب الكوادر المختلفة القادرة على تولي وإدارة مثل هذه الأزمات بيسر وسلاسة. أما قادة اليوم، فعليهم السعي للاستفادة من هذه الدروس وإعادة النظر في استعداداتهم لمواجهة مثل هذه الجائحة في المستقبل وبناء أوطان قادرة على الاعتماد الذاتي في مواجهة الكوارث؛ لأن التكافل العالمي ما زال أقرب إلى الأسطورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى