المملكة محط أنظار العالم لصياغة نهج سياسي جديد.
اتجهت أنظار العالم في الأسبوعين الأخيرين إلى المملكة التي شهدت تدافعًا من رؤساء العالم ما يؤكد دورها المحوري إقليميًا وعالميًا في صياغة نهج سياسي جديد يحفظ سيادة دول المنطقة ومصالحها المشتركة وأمن شعوبها. بعد زيارة رئيسي وزراء كوريا الجنوبية واليابان، جاءت زيارة الرئيس التركي، ثم تُوج هذا النشاط السياسي بقمة مجلس التعاون الخليجي مع دول آسيا الوسطى، وتخلل ذلك الاجتماع التشاوري لقادة دول الخليج الذي ترأسه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.وجاءت هذه الزيارات من جنوب شرق آسيا ووسطها امتدادًا لاستراتيجية القيادة السعودية لتوسيع العلاقات مع دول العالم وتنويعها والتحرر من السياسات التقليدية القديمة والانطلاق إلى فضاءات جديدة لمواجهة التحديات التي يواجهها العالم، التي قال سمو ولي العهد إن مواجهتها تؤكد على ضرورة تحقيق الأمن والاستقرار والتعاون بين الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.ربما تكون القمة الخليجية مع دول “الستانات” الخمس الأكثر أهمية بين كل هذا النشاط السياسي اللافت، فهذه الدول تتمتع بأهمية جيو-سياسية جعلت دولاً كثيرة، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة وإيران وإسرائيل وتركيا، تتسابق من أجل ضمان مناطق نفوذ فيها، إما من خلال بناء قواعد عسكرية، كما فعلت الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وحتى الهند، أو من خلال مشاريع تنموية، كما فعلت الصين وروسيا.وعلى الرغم من العلاقات التاريخية التي تربطنا مع هذه الدول، أو بلاد ما وراء النهر كما كانت تعرف أيام الخلافة الإسلامية، وهذا هو الإرث التاريخي الذي أشار إليه سمو ولي العهد في كلمته أمام القمة، إلا أنها لم تحظَ بالاهتمام الكافي من العالم العربي والإسلامي، وخاصة دول الخليج العربي. لكن هذا الاهتمام لم يكن غائبًا عن رؤية سمو ولي العهد الذي أولى اهتمامًا خاصًا بهذه الدول منذ توليه أمانة ولاية العهد في عام 2017.لقد فتحت قمة جدة بين مجلس التعاون وقادة هذه الدول مرحلة جديدة مع هذه الدول سيكون لها تأثير كبير في تشكيل التحالفات في هذا العالم الذي تدفع فيه الصراعات بين الدول الكبرى إلى مصير مجهول، كان يجب أن تنعقد هذه الشراكة مع هذه الدول منذ انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كانت خاضعة له، لكنها انعقدت في نهاية المطاف وهذا إنجاز في كل الأحوال، فـ”أن تأتي متأخرًا خير من لا تأتي أبدًا”، كما يقول المثل.إن من شأن هذه القمة أن تخفف من الانعكاسات الخطيرة للحرب في أوكرانيا ومنها أزمة الغذاء التي تهدد ملايين البشر في العالم وخاصة شعوب العالم “الثالث”، فهذه الدول غنية بمصادر الطاقة والموارد الطبيعية والأراضي الزراعية التي قد تعوض النقص في سلسلة الإمداد العالمي إذا ما استمرت أزمة الحبوب الأوكرانية. لقد طرحت الصين مبادرة الحزام والطريق مع هذه الدول، وقد حان الوقت لتنفيذ خطة استثمارات خليجية طموحة في مجالات عدة تعود بالنفع على الأطراف المتعاقدة لتكون امتدادًا للمشاريع السعودية التي بدأت في أوزبكستان والتي تقدّر بـ 14 مليار دولار.وهذه القمة تجذّر رؤية سمو ولي العهد لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط في وقت يتراجع فيه الحضور الأميركي، لكن من الواضح أن دول الخليج العربي على الرغم من مرور 44 عامًا على تأسيس المجلس تبحث عن التكامل. هذا التكامل، الذي قال أمين عام المجلس جاسم محمد البديوي إن هناك إرادة واضحة ورغبة جادة لتحقيقه، كان يجب أن يكون أولوية لقادة دول الخليج قبل الحديث عن التكامل مع دول العالم الأخرى وهذا ما سعت إليه القيادة السعودية من أجل خلق كتلة متماسكة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا بعيدًا عن الطموحات الضيقة الرخيصة. هذا الحال لا يمكن أن يستقيم إلا بوقفة مسؤولة وجادة لفرض الالتزام بقرارات المجلس وإلا فإن بعض الدول المتنفذة لن تنظر إلينا بعين الاحترام وستظل تتدخل في شؤوننا الداخلية وهذا هو الأمر الذي يحاربه سمو ولي العهد باقتدار وهو ما أكسبه تقدير صنّاع القرار في العالم الذين أخذوا يعيدون تقدير حساباتهم عند التعامل مع المملكة.فما يسعى إليه سمو ولي العهد ليس طموحُا شخصيًا وإنما رؤية استراتيجية بعيدة المدى لاستعادة دور هذا المنطقة في تشكيل العالم الجديد.لقد أصبحت نتائج هذا التصميم واضحة لكل ذي بصيرة إلا للذين على عيونهم غشاوة. في زيارته الأخيرة للمملكة، أهدى الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان سمو ولي العهد سيارة “توغ” بيضاء ورافقه في جولة فيها. ومع أن أهداف جولة أردوغان في دول الخليج العربي، التي بدأها بالمملكة، معروفة، إلا أن الرسالة التي أرادها أردوغان هو التعبير عن البياض بكل دلالات الخير والسلام وأن محمد بن سلمان بإمساكه بمقود السيارة اعتراف بقيادة سموه لهذه المرحلة من تاريخ الأمة!