بروفسور محمد عبد العزيز ربيع
استضافني الراديو العربي الأمريكي في ولاية متشيجان الأمريكية يوم 16 يونيو 2022 للحديث عن قضيتي التضخم، أي ارتفاع أسعار معظم السلع والخدمات، وتصاعد تلك الأسعار مع وقوع الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا، إضافة إلى الحديث عن رفع أسعار الفائدة على القروض.
إن فشل كافة التنبؤات التي توقعت تراجع نسب التضخم في ضوء استمرار نمو الاقتصاد الأمريكي، فرضت على البنك الفدرالي الأمريكي أن يتدخل ويقوم برفع معدلات الفائدة على القروض. وحين سُئلت قبل أشهر عن كيفية علاج مشكلة التضخم قلت إن اتجاه البنك الفدرالي لرفع معدلات الفائدة بنسبة ربع الواحد في المائة كان قليلا وجاء متأخرا كثيرا عن موعده، ما جعل هذا الإجراء يفشل في إحداث تغير ملموس في معدلات التضخم. لهذا يمكن القول أن قيام البنك الفدرالي برفع نسبة الفائدة نصف الواحد في المائة قبل أشهر، ثم رفعه بنسبة ثلاثة أرباع الواحد في المائة قبل أيام يعكس قصر نظر إدارة البنك واخفاقها في فهم ما يجري من تطورات اقتصادية واجتماعية في العالم. وأعتقد استمرار رفع معدلات الفائدة وحرب أوكرانيا وجشع الشركات سوف يقود إلى حدوث كساد تتراجع بسببه معدلات النمو الاقتصادي إلى أقل من الصفر في العام الحالي أو التالي.
أسباب التضخم
يمكن تحديد أسباب التضخم في خمسة عوامل رئيسية.
- استمرار جائحة كورونا وقدرتها على إنتاج سلالات فيروسية جديدة.
- زيادة تكلفة البترول بالنسبة لكافة وسائل النقل والمواصلات في العالم.
- وقوع حرب أوكرانيا وتصاعدها دون بارقة أمل في انتهائها قريبا.
- جشع الأثرياء والشركات الكبرى، وقيامهم باستغلال حرب أوكرانيا والجائحة لرفع الأسعار.
- شلل عملية صنع القرار في واشنطن نتيجة للتمحور العقائدي الذي يصف علاقة الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أمريكا.
إن من ينظر إلى الاجراءات التي اتخذت عالميا لوقف انتشار جائحة كورونا سوف يكتشف أن الجهود التي بذلتها الدول الثرية كانت ناجحة إلى حد كبير، لكن تلك الدول لم تستطع اقناع كافة شعوبها بقبول التطعيم بسبب قيام البعض بالتشكيك في أهدافه وفاعليته من الناحية الصحية. أما في دول العالم الثالث الفقيرة، فإن إمكاناتها المادية والعلمية لم تكن كافية لمواجهة الجائحة، فيما فشلت الدول الكبرى والثرية في القيام بواجباتها تجاه الدول الفقيرة وشعوبها. ومع استمرار تنقل الناس من مكان لآخر ونقل البضائع من دولة لأخرى، فإن جهود محاصرة الوباء والقضاء عليه لم تنجح كما كان متوقع. الأمر الذي يعني أن الجائحة سوف تستمر معنا لفترة قد تطول، ما يجعل تكاليفها المادية، وخوف البعض منها وانزوائهم في بيوتهم بعيدا عن أماكن عملهم، والقلق على الأطفال والعزلة سوف تستمر أيضا. وهذا يعني أننا نجحنا في تقليل خطر الجائحة، لكننا لم ننجح في القضاء عليها.
أما فيما يتعلق بارتفاع أسعار النفط وزيادة تكاليف المواصلات ونقل البضائع في داخل الدول وفيما بينها فهذا يعود إلى اختلال التوازن بين كمية المعروض من النفط والطلب عليه في الأسواق العالمية. لقد كان بالإمكان رفع معدلات الإنتاج في معظم الدول المصدرة للنفط، ووقف المقاطعة المفروضة على إيران وروسيا مؤقتا للمساعدة على كبح جماح التضخم وتخفيف آثاره السلبية. لكن قادة الغرب قرروا على ما يبدو أن معاقبة إيران وروسيا تأتي قبل مصلحة شعوبهم وفقراء العالم. من ناحية ثانية، لم ترتفع أسعار النفط في الكويت، فيما ارتفعت كثيرا في أمريكا، علما بأن أمريكا تنتج من النفط ما يزيد عن حاجتها، كما أن لديها احتياطي كبير بدأت بتخزينه عام 1973. وهذا يعني أنه ليس هناك مبرر لارتفاع أسعار النفط في أمريكا على الإطلاق. وسنأتي على هذا الأمر لاحقا.
مما لا شك فيه أن الحرب في أوكرانيا تسببت في حرمان أوكرانيا من تصدير معظم ما تنتجه من بضائع، خاصة القمح والشعير والذرة والزيوت النباتية، ما تسبب في نقص المعروض من تلك السلع في الأسواق العالمية وارتفاع أسعارها. إضافة إلى ذلك، قامت دول الغرب بفرض عقوبات على روسيا جعلت الوضع العام بالنسبة للتضخم يتحول من سيء إلى أسوأ. ومع أن المنطق الإنساني، وحماية حقوق الفقراء والأطفال، وحماية البيئة من التلوث، وحقن دماء الأبرياء توجب وقف القتال وإنهاء الحرب، إلا أن أمريكا، اتجهت إلى تصعيد الحرب وانفاق مليارات الدولارات على الأسلحة لاستمرارها. وهذا يشكل قرارا أمريكيا بمحاربة روسيا حتى آخر جندي أوكراني، والسماح للتضخم بأن يتصاعد ويلحق الضرر بكل الشعوب من أجل معاقبة روسيا. وهذا موقف يكشف أن العداء وليس المحبة، الحرب وليس السلم، هو السلاح الذي تستخدمه أمريكا للحفاظ على مكانتها التي تتراجع يوما بعد يوم على الساحة الدولية.
أما فيما يتعلق بالجشع المخيف الذي تبديه الشركات الكبرى وأثرياء العالم، والذي يتسبب في رفع الأسعار وحدوث التضخم، فمن الممكن إيضاحه من خلال حقيقتين: الأولى نجاح العشرة أشخاص الأكثر ثراء في العالم في زيادة حجم ثرواتهم من نحو 700 مليار دولار في عام 2020 إلى ما يزيد عن 1500 مليار في عام 2022. أما الحقيقة الثانية نجاح شركات النفط العالمية في تحقيق أرباح تساوي 100 مليار دولار في الربع الأول من عام 2022 مقارنة بنحو 74 مليار دولار في الربع الأول من عام 2021. ولما كانت أمريكا تنتج من النفط أكثر مما تستهلك، فإنه ليس هناك سبب لارتفاع أسعاره بنسبة تقترب من ضعف ما كان عليه قبل سنة. هذا هو الجشع الذي دفع الرئيس بايدن إلى تهديد شركات النفط بعقوبات، فيما قدم السناتور بيرني ساندرز مشروع قانون ينص على فرض ضريبة إضافية على تلك الشركات بنسبة 21%.
والآن نأتي على النقطة المتعلقة بشلل عملية صنع القرار في واشنطن؛ فالشلل هو أحد أهم أسباب تراجع مكانة أمريكا ومصداقيتها على الساحة الدولية. إذ حين يصل رئيس جمهوري إلى الحكم، يتحول الديمقراطيون إلى محاربين مهمتهم الرئيسية ضمان فشل الجمهورين في تحقيق أهدافهم. وحين يصل رئيس ديمقراطي إلى الحكم، يتحول الجمهوريون إلى محاربين مهمتهم الرئيسية ضمان فشل الديمقراطين في تحقيق أهدافهم. فعلى سبيل المثال، اقترح بايدن رفع نسبة الضريبة على من يزيد دخله السنوي عن 400 ألف دولار، وخفض أسعار الأدوية، لكنه فشل في تحقيق أي من الهدفين، علما بأن الأدوية التي تنتجها الشركات الأمريكية قد يصل سعرها في أمريكا عشرة أضعاف سعرها في كندا وأوروبا.
وهذا يعني أن نظام حياة أمريكا القائم على حرية الأسواق والديمقراطية لم يعد صالحا، ما يجعله بحاجة لإعادة هيكلة جذرية أو تغيير. أما فيما يتعلق بالتضخم والاقتصاد، فإنني لا أستبعد تراجع معدلات النمو الاقتصادي إلى أقل من الصفر، مع استمرار التضخم، وبالتالي حدوث أزمة اقتصادية كبرى تشمل كافة دول العالم وتكون بدرجة سوء أزمة 1929.